انتهى أكرم من حزم حقائبه استعداداً للسفر...
بعد أعوام عديدة قضاها في الغربة بعيداً عن وطنه...
لكن ها هو شعر بالحنين للعودة إليه...
ربما السبب الرئيسي في ذلك الحنين هو اشتياقه لأسرته الصغيرة
فلقد ترك والدته و أخيه الأصغر وحدهما في مصر
رغم أنه كان يرسل إليهما الكثير من المال بصورة ٍ دوريةٍ...
لكنه اشتاق إليهما حقاً و هما اشتاقا إليه...
لذلك حان الوقت رؤيتهما، لقد أبلغهما و سينتظرانه في المطار حتماً...
أنه يفكر الآن في العودة إلى مصر نهائياً، بعد أن أصبح ميسور الحال
و لديه مواد علمية كثيرة قد تفيده...
أخذ يراجع كافة متعلقاته لمرة أخيرة، قبل أن يذهب للمطار
و هنا وجد تلك المفكرة العجيبة في أحد أدراج مكتبه
كانت مغطاة بالغبار بالكامل، ربما لم تبرح مكانها منذ فترةٍ طويلة
أخذ يقلب صفحاتها في عجلة، وجدها مليء بكلام غريب غير منظم...
هو لا يملك الوقت لقراءة ما فيها، سيأخذها معه ليقرأها في الطريق...
فقد تحتوي على معلومات مهمة يحتاجها...
وضعها في حقيبة يده، ثم حضر أحد عاملي المبنى ليحمل حقائبه حتى سيارته...
ثم نزل إلى ذلك الشارع الفخم في مدينة نيويورك الأميركية...
دلف إلى المقعد الخلفي في سيارته الفاخرة، بينما أحتل السائق مقعد
القيادة...
مضى السائق في طريقه، لكن توقفت
السيارة أكثر من مرة في زحام نيويورك...
و هنا قرر أكرم استغلال تلك الفرصة، ففتح حقيبة يده و أخرج منها تلك
المفكرة العجيبة...
كانت ذات غلافٍ أسود تماماً، صفحاتها مهترئة بصورة كبيرة...
لكنه لم يعر لذلك اهتماماً...
فتح المفكرة و ألقى نظرة على صفحها الأولى...
وجد تلك الجملة الوحيدة المكتوبة بخط يده هو!
"إن كنت ستفكر يوماً في العودة إلى مصر، فمجرد التفكير في الأمر يجعلك
أحمقاً!"
صدمته تلك العبارة كثيراً، كيف لا و هو في طريقه إلى المطار و من ثم العودة
إلى مصر بالفعل الآن!
قلب الصفحات ليتابع القراءة ، ليجد الآتي مكتوباً في الصفحات التالية :
" إلى نفسي الحمقاء التي شعرت بالحنين فكرت بالعودة إلى مصر ولو لمجرد
زيارة!
حسناً أنت لم تنسَ حتماً، ما فعلته بك تلك البلد، التي هي ليست بوطنك!
لم تنس حتماً، كيف تخرجت من كلية العلوم بتفوق، و كم من أبحاث أجريتها و تم
رفضها بأعذار سخيفة، بل وصل الأمر إلى تحذيرك من الاستمرار، لم تنسَِ ذلك، أليس
كذلك؟
لم تنس أنك لم على الرغم من موهبتك الكبيرة بشاهدة الجميع، لم تحصل حتى على
وظيفة كريمة تناسب مكانتك و تؤمن لك مستقبلاً آدمياً"
"إن كنت نسيت كل ذلك، فحتماً لم تنسَ أخيك الأكبر الذي سقط صريعاً على
يد رصاصات المجرمين في يناير و هو لا يزال في ريعان شبابه؟!"
" ربما أنت لم تنسَ كذلك ما حدث لوالدك المريض، الذي فارق الحياة بسبب
الإهمال و الاستهتار الذي تعرض له في العلاج، فقط لأنكم لا تملكون المال، بل حتى
لا تملكون فرصة الحصول على المال، لذا كان عليكم اللجوء إلى مستشفيات حكومية عقيمة
غير آدمية حتى، و حتى حين جمعتم المال الكافي لنقله إلى مستشفى أخرى، كان الأوان
قد فات"
" حسناً إنك قد نسيت كل هذا، فربما تتذكر أختك الصغيرة التي أصابتها
أمراض الرئة بسبب الاستهتار المتأصل في نفوس الناس جميعاً في تلك البلد و عدم
احترمهم لصحة الأخرين...
بالتأكيد لم تنسِ كم من الآلام التي كانت تعانيها أختك و هي لا تستطيع لفظ
أنفاسها، بينما الهواء المعدوم ، و الكهرباء مقطوعة لساعات طويلة، بينما يخرج
علينا المسئولين في شاشات التلفاز بابتسامة سمجة، و تصريحات أكثر سماجة"
"بالتأكيد أنت تذكر كم كنت منبوذاً في بلدك، التي ليست بوطنك...
بالنسبة لك كانت مجرد أرض مؤقتة تعيش فيها، حتى تجد فرصة للهرب منها قبل أن
تموت
دولة لا تعترف إلا بالنقود، إن كنت تمتلك المال، فستعيش ملكاً و تتحول
أرضها إلى جنة...
أما بدون المال، فستفتح لك أبواب الجحيم على مصراعيها.
دولة تمثل الطبقية في أشنع صورها، قد تكون نسيت ذلك اليوم حينما ذهبت إلى
ذلك المركز التجاري الكبير...
حين كنت تظهر إلى واجهات العرض تكتفي بتأملها في حسرة، من المستحيل أن تفكر
حتى في شراء أي شي من هناك و لو بعد عشرات السنين...
و في الوقت ذاته تنظر في انبهار و ذهول ممزوجين بالحسد، إلى أولئك الذي
يخرجون محملين بكل ما يحلمون به من متاع في فرحة و سعادة.
" لقد اعتبرت نفسك لا تنتمي لتلك البلد، أنت بالفعل منبوذ منها...
مثلك مثل جميع من هم في حالتك...
تلك البلد ليست لك ، و أنت لا تنتمي إليها"
"يكفي"
قالها أكرم بصوتٍ مسموع دون أن يدري
فالتفت له السائق متسائلاً بالإنجليزية:
Any problem, sir?
"
هل من مشكلة يا سيدي؟ "
انتبه أكرم لما قاله، فأجاب في سرعة:
Nope, just go on.
كلا، امضِ في طريقك.
استمر السائق في طريقه، بينما لم ينبس أكرم ببنت شفه و ظل صامتاً شارد
الذهن طوال الطريق...
"we've already reached sir."
"ها قد وصلنا يا سيدي"
قالها السائق ليخرج أكرم من شروده...
خرج أكرم من السيارة دون أن ينتظر من سائقه أن يفتح له الباب...
تقدم ليدخل من بوابات المطار و معه إحدى الحقائب ...
تبعه السائق و معه بقية الحقائب...
لم يجلس في الاستراحة، و لم يفعل أي شيء سوى أنه ذهب إلى ساحة إطلاق
الطائرة مباشرة...
لكنه ظل واقفاً فيها من الخارج، و السائق يحدق فيه بحيرة شديدة...
أخرج أكرم هاتفه المحمول من جيبه و أجرى مكالمة استغرقت بعض الوقت...
و لاحظ فيها سائقه أن ملامح وجه أكرم قد تغيرت كثيراً خلال المكالمة...
تكرر النداء التنبيهي للمسافرين بضرورة التوجه إلى مقاعدهم في الطائرة و
الاستعداد لبدء الرحلة...
لكن أكرم لم يبالي بها، و لم يبالي بتنبيهات سائقه...
ظل واقفاً لوقت طويل... حتى رأى الطائرة و هي تحلق في السماء...
ثم خرج من أبواب المطار، يتبعه سائقه المصدوم...
أخرج أكرم من جيبه ، تلك التذكرة التي كان من المفترض أن تحمله إلى مصر...
ثم مزقها تماماً و ارتسمت على شفتيه ابتسامة تشفي...
ثم قال في نفسه :
آسف يا أماه، سيكون عليكِ أنتي أن تلحقي بي إلى هُنا...
لست أنوي العودة إلى ذلك المكان، حيث كنت منبوذاً.
قالها ثم أتجه إلى سيارته و أخبر سائقه بأنه سيقود هو السيارة بنفسه في
طريقة العودة...
إلى منزله الفاخر... في نيويورك.
***********************************************************
تمت