تدور المراوح في السقف ببلادة ، تدور أجنحتها حول مركزها كما تدور الإلكترونات حول النواة و تزيد من حرارة الجو أكثر مما تلطف .
تقف في طابور هائل لا أول له من آخر ، و أنت متيقن من أنه لا جدوى من وقوفك ، و رغم ذلك تظل ثابتاً بإصرار أحمق لا تعرف سببه و لا جدواه .
و الموظفين و الموظفات يجلسن بوجوه واجمة لا تبعث السرور أمام طاولة ممتدة بطول الغرفة و أمام كل منهم جهاز حاسوب عتيق لا تصدق أنه ما زال يعمل بهذه الحالة المزرية .
تسمع ضوضاء من حولك لا تدري مصدرها تحديداً لأنها تنبع من كل مكان ، لا تدري لها سبباً و لا تستطيع أن تتبين كلمة واحدة يمكن أن تُفهم من ذاك الحوار العشوائي البغيض .
يتصبب العرق غزيراً على جبهتك و وجنتيك ، فتدس يدك في جيبك لتخرج منديلاً مهترئاً ورثته عن أجدادك محاولاً تجفيف ذلك الشلال المنبثق .
تكاد تسقط فاقد الوعي آثر دوار رهيب يعصف برأسك ، تتمنى لو تمدد على سريرك ناسياً الدنيا بأكملها .
تنظر في ساعتك عبثاً لا رغبة ً في معرفة الزمن المفقود ، تضرب بقدميك الأرض في نفاذ صبر لن يفيد و تزفر بحرارة تشعل الجو أكثر ، و سرعان ما تكتسب وجوم الوسط المحيط و تتفاعل معه بترحاب مزيف .
ثم فجأة تعود لنقطة الصفر مجدداً و يتعكر مزاجك حين تسمع وابلاً من اللعن و السب المقذع ، تتلفت حولك ترى جلبة و بعض الناس يلتفون حول رجلاً قصير القامة حليق الرأس التي تبدو أشبه ببيضة مسلوقة ، قاسِ يبدو أشبه بزعيم من زعماء المافيا و هم يحاولون تهدئته بعبارات من نوع " اخزي الشيطان " " صلي ع النبي "
بينما أخذ هو يصيح كالديكة لتتناثر من فيه عبارات السباب مثل " يا ولاد ال ( ..... ) أنت متعرفوش أنا مين أنا ممكن أوديكم في ستين داهية "
تسري في جسدك قشعريرة باردة رغم حرارة الطقس و أنت تشمئز من مجرد فكرة أن يكون أمثال هذا الهمجي ذوي مكانة ما في المجتمع .
تعود بنظرك إلى طابورك الطويل الممتد إلى ما نهاية ، تسمع عبارات التذمر تفوح من الأفواه بأنها " كوسه " و " واسطة " و إنه بالتأكيد " مسنود " و سيتخطى الطابور بكل جبروت ليصل إلى رغبته رُغماً عن الجميع .. بينما تظل أنت صامتاً و في داخلك تقول بأن كل هذا هراء و أن هنالك ثورة " في البلد " و لا واسطة ستفلح الآن خاصةً مع أمثال ذلك المتعجرف .
رائحة التبغ تفوح من كل مكان بعد طول انتظار ، فتدس يدك في جيبك لتنزع منديلاً آخر تعزل به أنفك عنها .
يمر الوقت حثيثاً و تشعر أن طابورك يطول لا يقصر و أن من يتقدمونك أكثر ممن خلفك .
و أخيراً و بعد ساعاتٍ طوال لا تدري عددها ، تجد نفسك أمام ذلك الموظف الحكومي الكئيب و المذكور في كل الأساطير ..
تتقدم منه و تناوله أوراقك ، فيأخذها بدون أن يتفوه بحرف و يفحصها سريعاً ثم يعيدك إياها وسط نظراتك المتسائلة فيقول موضحاً : أوراقك ناقصة ، لازم شهادة التجنيد .. و أوراق التأمين و شهادة الزواج و ..
تظل منصتأً له في إحباط و تحاول أن تخزن في ذاكرتك كل تلك المطلوبات و تتيقن من أن يومك قد ضاع سُداً ، و أن مشوارك مازال طويل حتى تبلغ مرادك و إن أحضرت لهم " لبن العصفور " كما يقولون .
يصيح فيك الموظف أن تتنحى جانباً حتى يتقدم له من يليك في الطابور ، فتلمم أوراقك و سير مبتعداً نحو بوابة الخروج المعدنية الصدئة .
و ما إن تخرج حتى تجد ذات الشخص السمج ذو الرأس الشبيه بالبيضة يلوح بورقة في يده و يجاوره في السير نحو خارج المكان شخص ما يبدو أنه صديقه .
تجده يصوح بنفس اللهجة السمجة : أنا قلتلهم ولاد ال ( ..... ) أني هاخد منهم اللي أنا عاوزه غصباً عن ( ... ) هما اللي عصبوني ، ما كان الطيب أحسن .
ربت رفيقه كل كتفه برفق و هو يقول : خلاص ، هدي نفسك و المهم أنك أخدت اللي أنت عاوزه و أديك علمتهم الأدب و عرفتهم أنت مين .
لم تسمع من حوارهم المزيد فقد ابتعدوا عن نطاق أذنيك و لكنك التقطهم بعينك و هم يدلفون إلى سيارة فاخرة تفوح منها رائحة الثراء ، و انطلقت مبتعداً بهم عن مرمى البصر
أما أنت فتزيد حسرتك حسرة و مرارة و أنت تلتمس طريقاً نحو منزلك ..
حينئذ تتخذ قراراً بأنه ربما عليك أن تشتري قاموساً يعلمك السباب ، و لكنك تدرك أن ذلك لن يكون كافياً قط .. و أنك لن تنال شيئاً من ذلك السجل .. السجل المدني .
****************************************************************************