بحث في المدونة

الاثنين، 13 فبراير 2012

آلة الزمن : الفصل الأول ( نظرية )

" نجحت "
قالها بروفيسور علام حلمي عالم الفيزياء المصري الشهير بصوت خرج – رغمهاً عنه - جهورياً و ترددت أصداء صيحته تلك داخل منزله و الذي يحوي معمله الكبير و المجهز في أحد المناطق النائية و الهادئة بهضبة المقطم .
و قد أكتشف ذلك عندما أقتحم عليه باب معمله الخاص تلميذه و مساعده ياسر - و قد كان شاباً طويل القامة و نحيلاَ أسود الشعر و أسمر البشرة  - الذي صاح فور دخوله  :
ماذا حدث يا بروفيسور ؟
انتفض البروفيسور بشدة و كأنما  قد أصيب بشلال من الماء البارد ، و التفت خلفه ليواجه ياسر قائلاً : لا .. لا شيء .
ثم صمت و أخذ يرمقه بنظرات اتضحت فيها بعض الهالات السوداء حول عينيه و تابع قائلاً : تفضل يا ياسر ، أدخل و أغلق الباب خلفك .
تردد ياسر و وقف مرتبكاً لبضع ثوان ثم دلف إلى الداخل و أغلق الباب بتروِ .
تقدم ياسر ببطيءٍ نحو بروفيسور علام قائلاً : نعم بروفيسور ، أنا رهن أشارتك .
قال له البروفيسور بصوت مُنهك : اجلس يا ياسر .. اجلس .
جلس ياسر على الكرسي المواجه للبروفيسور مباشرة ً بهدوء .
تنهد البروفيسور بعمق ثم قال : سأحدثك الان في أمر هام للغاية ، و لكن في البداية أدين لك باعتذار .
بدت ملاح الدهشة على وجه ياسر فاستطرد البروفيسور : لأنني أخفيت عليك شيئاً ما خلال الفترة الماضية .
قال ياسر متسائلاً بدون أن تفارقه الدهشة : أي أمرٍ هذا ؟
رد البروفيسور بهدوء : ستعرف كل شيء يا ولدي ، فقط تحلى بالصبر .
قال  ياسر مرتبكاً و قد ارتسمت آيات الحرج على وجهه : معذرة يا بروفيسور .
تنهد البروفيسور بعمق أكبر ثم قال : أنت تعلم يا ياسر أنك تمثل بالنسبة لي أكثر من مجرد تلميذ و مساعد مجتهد و نابغ و موهوب  و مثقف.. بل أعتبرك ولدي الذي لم أنجبه ، فأنا لم أتزوج و ليس لدي ابناء كما تعلم .
تضرج وجه ياسر  بحمرة الخجل و قال في حرج : هذا شرف كبير لي يا سيدي .
تابع البروفيسور و كأنما لم يسمعه : و الان أنا أود أن أطلعك على سر كبير و خطير للغاية ، للدرجة التي اضطرتني إلى العمل في سرية بالغة بعد انصرافك و التكتم على الأمور تماماً , و آمل أن تعذرني في ذلك يا ولدي .
صمت البروفيسور برهة ليلتقط أنقاسه اختلس فيها نظرة ً إلى ياسر الذي بدا على وجهه الحيرة و الترقب ثم تابع بلهجة درامية : و الآن حان الوقت لكي أكشف لك كل شيء .
انتزع ياسر نفسه من حالته تلك ليقول : كلي آذان صاغية يا سيدي .
قال البروفيسور في سرعة : عظيم
قالها  ثم نهض واقفاً من على كرسيه ، فشرع ياسر بالنهوض هو الآخر لكن أوقفته اشارة من يد البروفيسور الذي بادره قائلاً في حسم : اجلس يا ياسر و استرخِ تماماً  و أنصت إلي جيداً.
تسمر ياسر في مكانه ، فأخذ البروفيسور يدور في أنحاء الغرفة ثم توقف و توجه بنظره إلى ياسر قائلاً :
و الأن لنبدأ .
****************************************************************************
" بالطبع تعلم عالم الفيزياء الكبير البرت اينشتاين و نظريته الشهيرة النسبية أليس كذلك ؟ "
قالها البروفيسور علام مخاطباً ياسر الذي أومأ برأسه ثم أجاب قائلاً : هذا مؤكد .
تابع البروفيسور : و تعلم ما تقوله النسبية عن انكماش الزمن ، و الزمكان والبعد الرابع ، مما طرح فكرة السفر عبر الزمن على مائدة العلم للمرة الأولى بعد كانت مجرد مادةً بحتة ً لروايات الخيال العلمي فحسب .
و توالت المحاولات و الافتراضات في هذا الصدد ، و لم يكن أيهم كافياً لتأكيد الأمر أو حتى نفيه .
و حيث أنني كنت شغوفاً بتلك الأمور منذ أن كنت يافعاً بدأت محاولاتي في ذلك الموضوع و أخذت أغوص فيه أكثر فأكثر و توالت الأبحاث واحداً تلو الآخر ..
صمت برهة بلغ فيها ياسر قمة الاثارة و الترقب ثم تابع قائلاً :
حتى وضعت نظريتي الخاصة .
****************************************************************************
" نظريتك الخاصة ؟ "
قالها ياسر في تساؤل مندهش بعد كلمات البروفيسور الأخيرة ..
فكرر البروفيسور و هو يتجه نحو نافذة المكتب : بلى .. نظريتي الخاصة .
سأل ياسر في فضول شديد : و ما هي تلك النظرية بالضبط ؟
عقد البروفيسور علام ذراعيه أمام صدره و استند بظهره إلى زجاج نافذة المكتب قائلاً :
حسناً أعرني كامل انتباهك ..
أومأ ياسر برأسه فتابع البروفيسور : بعد أن نشر اينشتاين لنظريته النسبية سادت حالة من الجدل الشديد في الأوساط العلمية حول إمكانية السفر عبر الزمن و أخذوا يتجادلون في الجزئيات التي تطرح ذلك الموضوع بصورة مباشرة و تناسى أغلبيتهم باقي محتوى النظرية ..
 فأخذت أبحث أنا في باقي النظرية عما قد يخدم تلك النقطة ، و في الحقيقة أصابني إحباط شديد حيث لم يجدي ذلك بفائدة كبيرة ..
حتى بدرت إلى ذهني فكرة ً بدت لي عجيبة ً للغاية و لكن في الوقت ذاته بدت لي الأقرب إلى المنطق و منها وضعت نظريتي التي تقول ..
صمت لحظة التقط فيها نفساً عميقاً ثم تابع : .. أن جميع البشر يسافرون بالفعل عبر الزمن !
****************************************************************************
سادت موجة من الصمت المطبق داخل مكتب البروفيسور علام حلمي صاحبتها انفجار قنبلة من التفكير العميق داخل عقل ياسر الذي عقد حاجيه في شدة محاولاً استيعاب جملة البروفيسور الأخيرة .
و بدا و كأن البروفيسور قد أدرك حالته فمنحه الفرصة للتفكير بتوقفه عن الحديث لبضع دقائق حتى وضع ياسر يده على جبهته و هز رأسه بقوة قائلاً :
أستسلم يا بروفيسور .. لا استطيع استنتاج أي شيء .
ابتسم البروفيسور في رصانة و قال : حسناً سأخبرك أنا ما أعنيه إذن .
قالها ثم التقط نفساً عميقاً للغاية و أغلق عينيه و هو يقول في استمتاع عجيب : في البداية أحب أن أنوه لك عن شيئ ما بخصوص الحركة في الأبعاد الثلاثة الأساسية و هي الطول و العرض و الارتفاع ..
فنحن نتحرك طولاً و عرضاً بحريةٍ شديدةٍ نسبياً بالسرعة التي تمكننا منها أقدامنا ، ثم اخترعنا السيارات و القطارات و الدرجات و غيرها من وسائل المواصلات المختلفة و التي سهلت تلك الحركة و جعلت أسرع كثيراً
و كذلك اخترعنا السفن التي مكنتنا من عبور البحار التي كانت بمثابة حواجز تحول بيننا و بين المزيد من الاكتشافات و كذلك كبلت حركتنا الحرة طولاً و عرضاً
أما بالنسبة للبعد الثالث و هو الارتفاع فقديماً كانت حركتنا فيه محدودة ً للغاية حيث كانت البداية قفزات الانسان البدائي المحدودة للحصول على غذائه من الاشجار المختلفة ، ثم حدث التطور شيئاً فشيئاً فاخترع الانسان السلم ليصعد عليه خطواته الأولى لحركة أكثر حرية في البعد الثالث .
صمت البروفيسور بضع ثوانِ لم يفقد ياسر أدنى قدرٍ من تركيزه فيها ثم تابع قائلاً :
ثم المنطاد الهوائي الذي يُعد بمثابة  البداية الحقيقية لذلك النوع من الحركة في الفراغ ، ثم الطفرة و اختراع العصر و هو الطائرات بتطوراتها و أنواعها المختلفة الذي مكنت الانسان أخيراً من أن يجوب الأرض في أبعادٍ ثلاثٍ متحدياً الجاذبية الأرضية ، و أطلق العلم حينئذ صيحة النصر ..
ثم تطور الأمر أكثر فأكثر لاختراع الطائرات الكونكورد في فرنسا و التي تتجاوز سرعة الصوت و التي كانت
طفرةً هائلةً في عالم الطيران المدني ، ليضحك العلماء أكثر و أكثر ليخدعوا أنفسهم أكثر و أكثر بأنهم قد اكتشفوا كل ما يمكن اكتشافه
ثم تم منع استخدام تلك الطائرات دولياً لثبوت اضرارها بالبيئة بسبب الغازات المتصاعدة منها ، و إن ظلت مثيلاتها من الطائرات العسكرية تُستخدم في مختلف دول العالم بالطبع
و كان ذلك بمثابة الصفعة التي أفاقت العلماء و أنذرتهم من ضريبة التطور التكنولوجي المُفرط و هي التأثيرات السلبية على البيئة
و على كُلٍ استمر العلم في التطور أكثر فأكثر ، فدخلنا عصر الفضاء من أوسع أبوابه باختراع المكوك الفضائي و سفن الفضاء المختلفة و تسابقت الدول العظمى على الدخول في هذا العالم الواسع، ليقهقه العلماء مجدداً بنشوة النصر الزائف .
صمت مجدداً لبضع دقائق أخذ يجوب في الغرفة فيها ليعطي فرصة لياسر في استيعاب ما قال  ثم عاد إلى موضعه مجدداً و تابع قائلاً :
و تناسى الجميع البعد المتبقي و الذي لم يُزح عنه  الستار بعد و هو الزمن ..
تناسى الجميع في غمرة التقدم أمر النسبية و اينشتاين
لم يفكر الكثيرين في أهمية الربط بين السفر في الفضاء و السفر عبر الزمن
كانت معظم المحاولات في ذلك الشأن محاولات محدودةً للغاية و فرديةَ أيضاً و نجاحها كان في حدود ضيقةً جداً 
و لكنني في الفترة الماضية فكرت بطريقةٍ مختلفةٍ للغاية ، فكرت و رأيت الأمور من منظور الأبعاد الأخرى المنظور الذي يقول اننا كنا في الماضي نتحرك في بُعدي الطول و العرض حركةً محدودةً ولم نكن نستطيع الحركة ارتفاعاً و قهر الجاذبية الأرضية إلا لمسافات ضئيلة حتى اخترعنا ما يمكننا من ذلك ، فالأمر نفسه ينطبق على الحركة في الزمن فنحن يمكننا التحرك – أو نتحرك بالفعل – في البعد الزمني و لكن بمقدار ضئيلٍ للغاية و في اتجاه معين لا يمكننا تغريبه .
صمت بضع لحظات ليشاهد الانفعالات على وجه ياسر الذي بدا مشدوهاً فابتسم و تابع : و المقدار هو الثانية الواحدة و الاتجاه هو للأمام أو المستقبل ..
و ما أعنيه هو اننا نسافر بمقدار ثانية واحدةً للمستقبل ، و بصورة أكثر وضوحاً هي أن جميع البشر يسافرون بالفعل عبر الزمن و لكن إجبارياً مع كل ثانيةٍ تمر إلى المستقبل و هكذا تمر الثواني و الدقائق و الأيام فعمر الانسان يساوي مقدار الزمن الذي قطعه في حياته .
 و بذلك نحن عدنا إلى نقطة ما قبل اختراع الطائرات و غيرها من وسائل الانتقال في البعد الثالث ، حيث لم نكن قادرين على التحرك لأعلى إلا قليلاً جداً بسبب قوة الجاذبية ، و كذلك نحن لا نستطيع التحرك في الزمن إلا بذلك المقادر الضئيل صوب اتجاه واحد و هو المستقبل
فنحن لا نستطيع التحرك بمقدار أكبر من ثانية إلى الامام و كذا لا يمكننا في الظروف العادية إدارة عجلى دوران الزمن إلى الخلف قط .
تكلم ياسر أخيراً بعد صمت و ذهول طويلين متسائلاً : هذا يثبت إذن أن السفر عبر الزمن غير ممكن عملياً إذن ، أليس كذلك ؟
حرك البروفيسور رأسه نافياً و هو يبتسم قائلاً :
بل أن ذلك يثبت أن السفر عبر الزمن ممكن ، ممكن تماماً .
و تسيد الصمت على الموقف .
****************************************************************************
يتبع ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

;